عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا
أَولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات؛
أمهاتهم شتى ودينهم واحد))؛ رواه الشيخان.
أقرب النبيين أخوَّةً إلى المسيح:
مما يسترعي النظرَ في هذا الحديث أنه
مَصْدرٌ من أجلِّ مصادر السنة، في تاريخ الأديان، وأصول الشرائع، ورسالات
الأنبياء، ودعوتهم إلى الله تعالى مُتعاقِبين على أمرٍ واحد، هو دين الله
الحق.
وجملة القول فيه، أن هذا النبيَّ الأميَّ
محمد بن عبدالله، أقربُ النبيين أخوَّةً إلى المسيح عيسى ابن مريم - صلوات
الله وسلامه عليهم - في الأولى والآخرة؛ لأنه خاتم الرسل الذين بشَّروا
برسالته، ومهَّدوا لقواعد مِلته، وأخذوا العهد والميثاق على أمتهم
ليَؤمنُنَّ به وليَنصرُنَّه: ﴿ وَإِذْ قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
الدين الحق:
وإن المرسلين قاطبة يَنتسِبون إلى أصلٍ
واحد، هو الدين القيِّم، الذي ارتضاه الله لنفسه، وشرَعه لعبده، ثم وصَّى
به رُسله، وكتب ألا يَقبَل غيره، وألا يجزي إلا به.
تعاقب الأنبياء على هذا الدين الحق، أصوله:
توحيد الله وتنزيهه، وفروعه: صور من العبادات، وضروب من التكاليف، تختلف
باختلاف الأممِ سذاجة وحصافة، وطفولة ورُجولة، وطبيعة وزمنًا؛ كمثل القانون
المهيمن على ممالك شتَّى يتَّفق فيها كلها أصولاً وقواعد، ويختلف فيها
فروعًا ومناهج، تَبعًا لاختلاف الطبائع والمدارك.
وذلك هو تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء كافة بأولاد العلات - وهن الضرائر -؛
لأنهم اجتمعوا في أب واحد، هو الإسلام، وافترقوا في أمهات كثيرة، هي
الأوعية الحافظة لهذا الدين في عهوده المختلفة، والمناهج الجامعة له في
عصوره المتعاقِبة.
وفي هذا الحديث - على وجازته - أصول لمباحثَ كريمةٍ، ولفتات إلى معانٍ سامية، سنحاول كشف الغطاء عنها - بعون الله وتوفيقه.
أصول الدين وفروعه وآدابه:
ينتظِم ما جاء به كلُّ نبي من الأنبياء أمورًا ثلاثة:
الأول:
ما يتَّصل بالعقيدة وأعمال القلوب؛ من إفراده تعالى بالربوبية، والاستسلام
له بالعبودية، والإيمان بالله وملائكته، وكُتُبه ورُسله، واليوم الآخر،
والقضاء والقدر؛ خيره وشره، حلوه ومره، ويُعرَف ذلك وما إليه بأصول الدين،
وقد يُعرف بالتوحيد؛ لأنه مِلاك هذه الأصول وعِمادها، لا تقوم إلا به، ولا
تنهَض إلا عليه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، اتَّفقت على هذه الأصول جملةً وتفصيلاً كلمةُ الأنبياء، ونزلت بها كتبُ السماء، وأشار إليها قوله - عز وجل -: ﴿ شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا ﴾ [الشورى: 13].
والثاني:
ما يتَّصل بأعمال الجوارحِ؛ كالصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وبر الوالدين، وغير ذلك من سائر الأوامر والنواهي، مما يُعرَف
بأصول الأحكام وفروع الإيمان.
والثالث:
ما يرتبِط بالنفوس وتزكيتها، والأرواح وترقيتها؛ كإغاثة الملهوف، والتنفيس
عن المكروب، واحتمال الأذى في الله، والمسارعة إلى الخير ابتغاء رضاه، وما
إلى ذلك مما يُعدّ من نوافل الأعمال، وكرائم الخِصال، وإن لم يبلغ مبلغَ
الفرائض المحتومة، والواجبات المفروضة، وقد جاءت الأديان كلها بهذين
القسمين كذلك، إلا أنها تختلف فيهما - ولا سيما أولهما - اختلافًا كثيرًا
في الصور والأشكال، لا في المقصد والمآل، وإلى هذين يشير قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة: 48].
تشابُك الشُّعب الثلاث:
على أن تقسيم الدين إلى أصول، وفروع،
ومكارم؛ إنما هو للإيضاح والتقريب، وإلا فلا جدال أن هذه الشُّعَب الثلاث
كلها متَّصلة متشابِكة، يقوِّي بعضها بعضًا، ويَشدُّ بعضها أزر بعض: ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
﴾ [إبراهيم: 24]، وإذا كان من سنَّة الله التدرج في الأشياء كلها، فليس
بِدْعًا أن تنشأ الشرائع الإلهية نشأة الإنسان في أفراده وجماعته، ويربي
الجماعاتِ أنبياءُ الله، كما يربي المرءَ أبواه، حتى إذا بلَغ العالَمُ
رُشده، أرسل إليه من لا نبيَّ بعده، بخير المِلل وأوفاها، وأدوم الشرائع
وأبقاها، لا يضرُّ أهلَها مَن خالَفهم حتى يأتي أمر الله.
وحدة الإيمان بالرسل:
أهم غاية يرمي إليها الحديث هي الإيمان
بأنبياء الله جميعًا، وبأنهم متَّحِدون متعاونون يَنصر آخرُهم أوَّلَهم،
ويؤيِّد بعضهم بعضًا، ولا يتمُّ التصديق بهم أجمعين - بل لا يتم الإيمان
بالله عز وجل - مع الكفر بواحد منهم، إلا في زعم مَن سَفِه نفسه، وأضلَّ
عقله، وقد تردَّى أهل الكتابين في هاوية الكفر بمحمد، وازداد اليهود
تردِّيًا بالكفر بعيسى، وهما - صلوات الله عليهما - مما يقول الخرَّاصون
جِدُّ بريئينِ.
الرسل مراتب ودرجات:
وليس من التفريق بين الأنبياء تفضيلُ
بعضهم على بعض؛ فقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على أن الرسل درجات، وعلى أن
أفضلهم أولو العزم، وحسْبُنا في دلائل هذا الفضل قولُه تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253].
غير أنه لا يَجمُل بالمؤمنين أن يشتغلوا
بهذا التفضيل؛ خَشيةَ الزلل والهفو، وقد يجرُّ التفضيل إلى الثلب والطعن،
وهما من صريح الكفر؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَه أن
تفضِّله على يونس بن متى - صلوات الله وسلامه عليه - على حين أنه - كما قال
صلى الله عليه وسلم -: ((سيد ولد آدم ولا فخر)).
ردُّ فرية:
وفي الحديث ردُّ فرية اليهود في عيسى - عليه السلام -: ﴿ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا
﴾ [النساء: 156]، وردُّ فرية النصارى في تأليههم إيَّاه وهو عبد الله
ورسوله؛ الأُولى: أثر الغلو في الظن والطعن، والثانية: أثر الغلو في
الإطراء والمدح.
لا نبي بين البعثتين:
والحديث شاهد بألا نبي بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وفترة ما بينهما قُرابة ستمائة عام.
أما الثلاثة الذين أُرسِلوا إلى أصحاب القرية، فأنهم رُسل عيسى وبعضُ حوارييه، أرسَلهم بأمر من الله - عز وجل.
وأما مَن دعا قريشًا إلى ملة إبراهيم من
العرب، فإنما هم بقيَّة من أتباع إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - وإذ
لم تكن هذه الرواية فيصلاً فيما نقول، ففي رواية أخرى للشيخين: ((أنا أولى
الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي)).
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها: الأستاذ مجد بن أحمد مكي
ساهم في نشر الموضوع للفائدة:
شارك الموضوع
التسميات:
مواضيع دينية

عالم من الثقافة والمعرفة والقصص والعبر الهادفة والخطب و المحاضرات والبرامج و الإضافات و الشروحات و كل ما يفيد ويحافظ على صحتك ومجموعة منتقاة من أضخم وأقوى المواضيع في مجالات متعددة

